رفع إلى الخليفة العباسي المعتضد بالله أن طائفةً من الناس يجتمعون في الطرقات ويجلسون في دكان شيخ يبيع التبن يخوضون في الفضول والشائعات والأحاديث عن مظالمهم وعن الخليفة والوزراء والحاشية.
وفيهم قوم من الميسورين المعروفين لدى العامة فصار العامة يترددون على الدكان يسترقون السمع وأنشغلوا عن أعمالهم وصاروا ينشرون الشائعات هنا وهناك وقد تفاقم فسادهم وإفسادهم.
فلما عرف الخليفة ذلك ضاق ذرعاً، وامتلأ غيظاً، ودعا وزيره عبيد الله بن سليمان وسأله :فما الدواء؟! قال: تتقدم بأخذهم وصلب بعضهم وإحراق بعضهم وتغريق بعضهم، فإن العقوبة إذا اختلفت كان الهول أشد، والهيبة أفشى.
فقال المعتضد وكان أعقل من الوزير: والله لقد بردت لهيب غضبي بفورتك هذه ونقلتني إلى اللين بعد الغلظة حيث أشرت بالخرق، وما علمت أنك تستجيز هذا في دينك وهديك ومروءتك.
ولو أمرتك ببعض ما رأيت بعقلك وحزمك لكان من حسن المؤازرة ومبذول النصيحة والنظر للرعية الضعيفة الجاهلة أن تسألني الكف عن الجهل، وتبعثني على الحلم، وتحبب إليّ الصفح عنهم والرفق بهم وترغبني في فضل غض الطرف عن أخطائهم.
وقد ساءني جهلك بحدود العقاب وبما تقابل به مثل تلك الأخطاء، ولقد عصيت الله بهذا الرأي ودللت على قسوة الرأي وقلة الرحمة، أما تعلم أن الرعية وديعة الله عند سلطانها؟
وأن الله يسائله عنها كيف ساسها؟ ولعله لا يسألها عنه، وإن سألها فلِيُؤكِد الحُجة عليه منها، ألا تدري أن أحداً من الرعية لا يقول ما يقول إلا لظلم لحقه أو لحق جاره، وداهيةٍ نالته أو نالت صاحباً له؟
وكيف نقول لهم: كونوا صالحين أتقياء مقبلين على معايشكم، غير خائضين في حديثنا، ولا سائلين عن أمرنا، والعرب تقول في كلامها: غلبنا السلطان فلبس فروتنا، وأكل خضرتنا، وحنق المملوك على المالك معروف، وإنما يحتمل المالك على صروف تكاليفه، ومكاره تصاريفه إذا كان العيش في كنفه رافعاً، والأمل فيه قوياً.
وأردف قائلا: لاو الله ما الرأي ما رأيت، ولا الصواب ما ذكرت، ابعث صاحبك اليهم وليكن ذا خبرة ورفق، ومعروفاً بالخير والصدق حتي يعرف حال هذه الطائفة ويقف على شأن كل واحد منهم في معاشه، فمن كان منهم من يصلح للعمل فشغله.
ومن كان سئ الحال فصله ببيت المال بما يعيد نضرة حاله، ومن لم يكن من هؤلاء القوم، وهو غنيٌ ميسور الحال، وإنما يخرجه إلى ذلك الدكان البطر والزهو فادع به وانصحه بلطف وقل له: إن لفظك مسموع وكلامك مرفوع ومتى وقف أمير المؤمنين على افتراءك عليه بالباطل سيكون عقابك عسير مع سلطانك.
وفارق الوزير حضرة الخليفة وعمل بما أمر به على الوجه اللطيف، فعادت الحال ترف بالسلامة وأمر صاحب الدكان بأن يرفع إليه حال كل من يقعد عنده فيواسي إن كان محتاجاً ويصرف إن كان متعطلاً وينصح إن كان متعقلاً.