أمين هذه الأمة من هذا الذي أمسك الرسول بيمينه وقال عنه: ” ان لكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجرّاح” من هذا الذي أرسله النبي في غزوة ذات السلاسل مددا اعمرو بن العاص، وجعله أميرا على جيش فيه أبو بكر وعمر؟
وكان يعرف أبو عبيدة بن الجراح بأنه طويل القامة نحيف الجسم، معروق الوجه، خفيف اللحية، الأثرم، ساقط الثنيتين كما قال عنه عمر بن الخطاب وهو يجود بأنفاسه: ” لو كان أبو عبيدة بن الجرّاح حيا لاستخلفته فان سالني ربي عنه قلت:
استخافت أمين الله، وأمين رسوله” انه أبو عبيدة عامر بن عبد الله الجرّاح أسلم على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الأيام الأولى للاسلام، قبل أن يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم دار الرقم، وهاجر الى الحبشة في الهجرة الثانية، ثم عاد منها ليقف الى جوار رسوله في بدر، وأحد.
وبقيّة المشاهد جميعها ثم ليواصل سيره القوي الأمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في صحبة خليفته أبي بكر، ثم في صحبة أمير المؤمنين عمر، نابذا الدنيا وراء ظهره مستقبلا تبعات دينه في زهد، وتقوى، وصمود وأمانة وعندما بايع أبو عبيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن ينفق حياته في سبيل الله، كان مدركا تمام الادراك ما تعنيه هذه الكلمات الثلاث، في سبيل الله وكان على أتم استعداد لأن يعطي هذا السبيل كل ما يتطلبه من بذل وتضحية.
ومنذ بسط يمينه مبايعا رسوله، وهو لا يرى في نفسه، وفي ايّامه وفي حياته كلها سوى أمانة استودعها الله اياها لينفقها في سبيله وفي مرضاته، فلا يجري وراء حظ من حظوظ نفسه.. ولا تصرفه عن سبيل الله رغبة ولا رهبة.
ولما وفّى أبو عبيدة بالعهد الذي وفى به بقية الأصحاب، رأى الرسول في مسلك ضميره، ومسلك حياته ما جعله أهلا لهذا اللقب الكريم الذي أفاءه عليه، وأهداه اليه، فقال عليه الصلاة والسلام: ” أمين هذه الأمة، أبو عبيدة بن الجرّاح”.
أن أمانة أبي عبيدة على مسؤولياته، لهي أبرز خصاله ففي غزوة أحد أحسّ من سير المعركة حرص المشركين، لا على احراز النصر في الحرب، بل قبل ذلك ودون ذلك، على اغتيال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فاتفق مع نفسه على أن يظل مكانه في المعركة قريبا من مكان الرسول.
ومضى يضرب بسيفه الأمين مثله، في جيش الوثنية الذي جاء باغيا وعاديا يريد أن يطفئ نور الله وكلما استدرجته ضرورات القتال وظروف المعركة بعيدا عن رسول الله صلى اله عليه وسلم قاتل وعيناه لا تسيران في اتجاه ضرباته بل هما متجهتان دوما الى حيث يقف الرسول صلى الله عليه وسلم ويقاتل، ترقبانه في حرص وقلق.
وكلما تراءى لأبي عبيدة خطر يقترب من النبي صلى الله عليه وسلم، انخلع من موقفه البعيد وقطع الأرض وثبا حيث يدحض أعداء الله ويردّهم على أعقابهم قبل أن ينالوا من الرسول منالا!
وفي احدى جولاته تلك، وقد بلغ القتال ذروة ضراوته أحاط بأبي عبيدة طائفة من المشركين، وكانت عيناه كعادتهما تحدّقان كعيني الصقر في موقع رسول الله، وكاد أبو عبيدة يفقد صوابه اذ رأى سهما ينطلق من يد مشرك فيصيب النبي، وعمل سيفه في الذين يحيطون به وكأنه مائة سيف، حتى فرّقهم عنه، وطار صواب رسول الله فرأى الدم يسيل على وجهه، ورأى الرسول الأمين يمسح الدم بيمينه وهو يقول:
” كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم، وهو يدعهم الى ربهم” ورأى حلقتين من حلق المغفر الذي يضعه الرسول فوق رأسه قد دخانا في وجنتي النبي، فلم يطق صبرا واقترب يقبض بثناياه على حلقة منهما حتى نزعها من وجنة الرسول، فسقطت ثنيّة، ثم نزع الحلقة الأخرى، فسقطت ثنيّة الثانية.
وما أجمل أن نترك الحديث لأبي بكر الصديق يصف لنا هذا المشهد بكلماته: ” لما كان يوم أحد، ورمي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخلت في وجنته حلقتان من المغفر، أقبلت أسعى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانسان قد أقبل من قبل المشرق يطير طيرانا، فقلت: اللهم اجعله طاعة، حتى اذا توافينا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واذا هو أبو عبيدة بن الجرّاح قد سبقني، فقال: أسألك بالله يا أبا بكر أن تتركني فأنزعها من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فتركته، فأخذ أبو عبيدة بثنيّة احدى حلقتي المغفر، فنزعها، وسقط على الأرض وسقطت ثنيته معه ثم أخذ الحلقة الأخرى بثنية أخرى فسقطت فكان أبو عبيدة في الناس أثرم وأيام اتسعت مسؤوليات الصحابة وعظمت، كان أبو عبيدة في مستواها دوما بصدقه وبأمانته.
فاذا أرسله النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخبط أميرا على ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا من المقاتلين وليس معهم زاد سوى جراب تمر والمهمة صعبة، والسفر بعيد، استقبل ابو عبيدة واجبه في تفان وغبطة، وراح هو وجنوده يقطعون الأرض، وزاد كل واحد منهم طوال اليوم حفنة تملا، حتى اذا أوشك التمر أن ينتهي، يهبط نصيب كل واحد الى تمرة في اليوم حتى اذا فرغ التمر جميعا راحوا يتصيّدون الخبط، أي ورق الشجر بقسيّهم، فيسحقونه ويشربون عليه الماء.
ومن اجل هذا سميت هذه الغزوة بغزوة الخبط ومضوا لا يبالون بجوع ولا حرمان، ولا يعنيهم الا أن ينجزوا مع أميرهم القوي الأمين المهمة الجليلة التي اختارهم رسول الله لها لقد أحب الرسول عليه الصلاة والسلام أمين الأمة أبا عبيدة كثيرا وآثره كثيرا ويوم جاء وفد نجلاان من اليمن مسلمين، وسألوه أن يبعث معهم من يعلمهم القرآن والسنة والاسلام، قال لهم رسول الله:
” لأبعثن معكم رجلا أمينا، حق أمين، حق أمين حق أمين”!! وسمع الصحابة هذا الثناء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتمنى كل منهم لو يكون هو الذي يقع اختيار الرسول عليه، فتصير هذه الشهادة الصادقة من حظه ونصيبه.
وكما عاش أبو عبيدة مع الرسول صلى الله عليه وسلم أمينا، عاش بعد وفاة الرسول أمينا بحمل مسؤولياته في أمانة تكفي أهل الأرض لو اغترفوا منها جميعا وسار تحت راية الاسلام أنذى سارت جنديّا، كأنه بفضله وباقدامه الأمير وأميرا، كأن بتواضعه وباخلاصه واحدا من عامة المقاتلين.
وعندما كان خالد بن الوليد يقود جيوش الاسلام في احدى المعارك الفاصلة الكبرى واستهل أمير المؤمنين عمر عهده بتولية أبي عبيدة مكان خالد لم يكد أبا عبيدة يستقبل مبعوث عمر بهذا الأمر الجديد، حتى استكتمه الخبر، وكتمه هو في نفسه طاويا عليه صدر زاهد، فطن، أمين حتى أتمّ القائد خالد فتحه العظيم.
وآنئذ، تقدّم اليه في أدب جليل بكتاب أمير المؤمنين!! ويسأله خالد: ” يرحمك الله يا أبا عبيدة ما منعك أن تخبرني حين جاءك الكتاب” فيجيبه أمين الأمة: ” اني كرهت أن أكسر عليك حربك، وما سلطان الدنيا نريد، ولا للدنيا نعمل، كلنا في الله اخوة”.
ويصبح أبا عبيدة أمير الأمراء في الشام، ويصير تحت امرته أكثر جيوش الاسلام طولا وعرضا عتادا وعددا وحين ترامى الى سمعه أحاديث أهل الشام عنه، وانبهارهم بأمير الأمراء هذا جمعهم وقام فيهم خطيبا فانظروا ماذا قال للذين رآهم يفتنون بقوته، وعظمته، وأنتم يا أيها الناس اني مسلم من قريش وما منكم من أحد، أحمر، ولا أسود، يفضلني بتقوى الا وددت أني في اهابه”
ومات أمين الأمة فوق الأرض التي طهرها من وثنية الفرس، واضطهاد الرومان هناك اليوم تحت ثرى الأردن يثوي رفات نبيل.
كان مستقرا لروح خير، ونفس مطمئنة وسواء عليه، وعليك، أن يكون قبره اليوم معروف أو غير معروف فانك اذا أردت أن تبلغه لن تكون بحاجة الى من يقودك اليه ذلك أن عبير رفاته، سيدلك عليه!!