انه أبو سفيان آخر، غير أبو سفيان بن حرب وان قصته، هي قصة الهدى بعد الضلال والحب بعد الكراهية والسعادة بعد الشقوة هي قصة رحمة الله الواسعة حين تفتح أبوابها اللاجئ ألقى نفسه بين يدي الله بعد أن أضناه طول اللغوب!
تصوّروا بعد عشرين عاما قضاها ابن الحارث في عداوة موصولة للاسلام عشرون عاما منذ بعث النبي عليه السلام، حتى اقترب يوم الفتح العظيم، وأبو سفيان بن الحارث يشدّ أزر قريش وحلفائها، ويهجو الرسول بشعره، ولا يكاد يتخلف عن حشد تحشده قريش لقتال!
وكان اخوته الثلاثة: نوفل، وربيعة، وعبدالله قد سبقوه الى الاسلام وأبو سفيان هذا، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، اذ هو ابن الحارث بن عبدالمطلب.
ثم هو أخو النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة، اذ أرضعته حليمة السعدية مرضعة الرسول بضعة أيام وذات يوم نادته الأقدار لمصيره السعيد، فنادى ولده جعفرا، وقال لأهله:
انا مسافران الى أين يا بن الحارث الى رسول الله لنسلم معه لله رب العالمين ومضى يقطع الأرض بفرسه ويطويها طيّ التائبين وعند الأبواء أبصر مقدمة جيش لجب.
وأدرك أنه الرسول قاصدا مكة لفتحها وفكّر ماذا يصنع ان الرسول قد أهدر دمه من طول ما حمل سيفه ولسانه ضد الاسلام، مقاتلا وهاجيا فاذا رآه أحد من الجيش، فسيسارع الى القصاص منه.
وان عليه أن يحتال للأمر حتى يلقي نفسه بين يدي رسول الله أولا، وقبل أن تقع عليه عين أحد من المسلمين وتنكّر أبو سفيان بن الحارث حتى أخفى معالمه، وأخذ بيد ابنه جعفر، وسار مشيا على الأقدام شوطا طويلا، حتى أبصر رسول الله قادما في كوكبة من أصحابه، فتنحّى حتى نزل الركب.
وفجأة ألقى بنفسه أمام رسول الله مزيحا قناعه فعرفه الرسول، وحو ل وجهه عنه، فأتاه أبو سفيان من الناحية أخرى، فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم. وصاح أبو سفيان وولده جعفر: ” نشهد أن لا اله الا الله ونشهد أن محمدا رسول الله”.
واقترب من النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: ” لا تثريب يا رسول الله” وأجابه الرسول: ” لا تثريب يا أبا سفيان ثم أسلمه الى علي بن أبي طالب وقال له:
” علم ابن عمّك الوضوء والسنة ورح به اليّ” وذهب به علي ثم رجع فقال له الرسول: ” ناد في الناس أن رسول الله قد رضي عن أبي سفيان فارضوا عنه”.
لحظة زمن، يقول الله لها: كوني مباركة، فتطوي آمادا وأبعادا من الشقوة والضلال، وتفتح أبواب رحمة ما لها حدود لقد كاد أبو سفيان يسلم، بعد أن رأى في بدر وهو يقاتل مع قريش ما حيّر لبّه.
ففي تلك الغزوة تخلّف أبو لهب وأرسل مكانه العاص بن هشام وانتظر أبو لهب أخبار المعركة بفارغ الصبر وبدأت الأنباء تأتي حاملة هزيمة قريش المنكرة.
وذات يوم، أبو لهب مع فرمن القريش يجلسون عند زمزم، اذ أبصروا فارساً مقبلاً فلما دنا منهم اذا هو: أبو سفيان بن الحارث.
ولم يمهله أبو لهب، فناداه:” هلمّ اليّ يا بن أخي فعندك لعمري الخبر حدثنا كيف كان أمر الناس”؟؟ قال أبو سفيان بن الحارث: ” والله نا هو الا أن أن لقينا القوم حتى منحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا.
وأيم الله ما لمت قريشا فلقد لقينا رجالا بيضا على خيل بلق، بين السماء والأرض، ما يشبهها شيء، ولا يقف أمامها شيء” وأبو سفيان يريد بهذا أن الملائكة كانت تقاتل مع الرسول والمسلمين.
فما باله لم يسلم يومئذ وقد رأى ما رأى ان الشك طريق اليقين، وبقدر ما كانت شكوك أبي الحارث عنيدة وقوية، فان يقينه يوم يجيء سيكون صلباً قوياً.
ولقد جاء يوم يقينه وهداه وأسلم لله رب العالمين ** ومن أولى لحظات اسلامه، راح يسابق الزمان عابدا، ومجاهدا، ليمحو آثار ماضيه، وليعوّض خسائره فيه.
خرج مع الرسول فيما تلا فتح مكة من غزوات ويوم حنين، حيث نصب المشركون للمسلمين كمينا خطيرا، وانقضوا عليهم فجأة من حيث لا يحتسبون انقضاضا وبيلا أطار صواب الجيش المسلم، فولّى أكثر أجناده الأدبار وثبت الرسول مكانه ينادي:
” اليّ أيها الناس أنا النبي لا كذب انا ابن عبدالمطلب” في تلك اللحظة الرهيبة، كانت هناك قلة لم تذهب بصوابها المفاجأة وكان منهم أبو سفيان بن الحارث وولده جعفر.
ولقد كانأبو سفيان يأخذ بلجام فرس الرسول، وحين رأى ما رأى أدرك أن فرصته التي بحث عنها قد أهلت تلك أن يقضي نحبه شهيدا في سبيل الله، وبين يدي الرسول.
وراح يتشبث بمقود الفرس بيسراه، ويرسل السيف في نحور المشركين بيمناه وعاد المسلمون الى مكان المعركة حتى انتهت، وتملاه الرسول ثم قال: ” أخي أبو سفيان بن الحارث؟”
ما كاد أبو سفيان يسمع قو الرسول ” أخي” حتى طار فؤاده من الفرح والشرف فأكبّ على قدمي الرسول يقبلهما، ويغسلهما بدموعه.
وتحرّكت شاعريته فراح يغبط نفسه على ما أنعم الله عليه من شجاعة وتوفيق: لقد علمت أفناء كعب وعامر غداة حنين حين عمّ التضعضع بأني أخو الهيجاء، أركب حدّها أمام رسول الله لا أتتعتع رجاء ثواب الله والله راحم اليه تعالى كل أمر سيرجع.
وأقبل لأبو سفيان بن الحارث على العبادة اقبلاً عظيماً، وبعد رحيل الرسول عن الدنيا، تعلقت روحه بالموت ليلحق برسول الله في الدار الآخرة، وعاش ما عاش والموت أمنية حياته.
وذات يوم شاهده الناس في البقيع يحفر لحدا، ويسويّه ويهيّئه فلما أبدوا دهشتهم مما يصنع قال لهم: ” اني أعدّ قبري”.
وبعد ثلاثة أيام لا غير، كان راقدا في بيته، وأهله من حوله يبكون وفتح عينيه عليهم في طمأنينة سابغة وقال لهم: ” لا تبكوا عليّ، فاني لم أتنظف بخطيئة منذ أسلمت”!
وقبل أن يحني رأسه على صدره، لوّح به الى أعلى، ملقيا على الدنيا تحيّة الوداع..!!