قصة فيل إبرهة قال الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
في عام 571م كانت هناك محاولة لهدم الكعبة الشريفة من قبل أبرهة الحبشي، وقد خلد القرآن الكريم قصة هذه المحاولة وأسهبت المصادر التاريخية في الحديث عنها، وتفاصيل هذه القصة أنه بنى أبرهة كنسية بصنعاء، واسمها (القليس) وأراد أن يصرف حج العرب إليها بعد أن جعلها تحفة من تحف البناء والعمارة، ولا تقل روعة عن كنيسة أيا صوفيا في القسطنطينية؛
فثارت حفيظة العرب عليه، وأخذوا يضمرون الشر له ولكنيسته وقد اختلفت الأقوال في السبب الذي أثار حفيظة أبرهة على العرب ورغبته في الانتقام منهم وهدم الكعبة؛ فقيل إن رجلا من أهل كنانة دخل القليس وعبث بأثاثها وقعد فيها ثم قام بتلطيخها بالقاذورات والأوساخ، فلما أخبر أبرهة بذلك وقيل له إن الذي انتهك حرمة القليس هو لرجل من أهل هذا البيت الذي تحجه العرب بمكة لما سمع بقولك إنك تريد أن تصرف حج العرب إلى بيتك هذا.
غضب وأقسم ليسيرن إلى الكعبة حتى يهدمها، وليحملن العرب على أن يحجوا إلى كنيسته بالسيف وقيل إن بعض العرب أججوا نارا فحملتها الريح إلى القليس وأحرقتها؛ مما أثار ثائرة أبرهة، وجعله يصمم على السير إلى مكة وهدم الكعبة ودكها دكا.
وقد دفعه ذلك إلى تجهيز جيش كبير اختلف الرواة في عدده وتعداده، وأحضر معه فيلا ضخما كبير الجثة سمته الروايات (محمودا) بعثه نجاشي الحبشة إليه للقيام بتلك المهمة.
والواقع أن الرواة أغفلوا حقائق مهمة؛ فليس منطقيا أن تقوم حملة كبيرة كهذه، وتقطع مئات الكيلو مترات بسبب قيام رجل بانتهاك حرمة القليس أو بإحراق جماعة من العرب لجزء منها، بل يجب أن يكون السبب أهم من ذلك وأكبر، وأن تكون فكرة غزو مكة هدفها أعمق من ذلك.
فالحقيقة أن الدافع الرئيسي لذلك كان دافعا دينيا وسياسيا واقتصاديا معا! أما الدافع الديني فكان الرغبة في نشر النصرانية في بلاد العرب، وهدم الكعبة وتحويل حج العرب إلى كنيسة صنعاء، خصوصا أن النصارى وجدوا في الكعبة منافسا كبيرا أمامهم. والدافع السياسي فهو فرض السيطرة الحبشية على بلاد الحجاز بعد غزوها كما فرضت على اليمن.
وذلك لتحقيق حلم الدولة البيزنطية بفرض سيطرتها على شبه الجزيرة العربية، وتكوين جبهة عسكرية مؤيدة من الأحباش من جهة، ومن الروم المقيمين في بلاد الشام من جهة أخرى بهدف التصدي لمحاولات الفرس التي كانت تستهدف أمن البحر الأحمر، ومن هنا وفقت بيزنطة بكل قوتها وراء هذا المشروع الخطير حتى تحقق نصرا سياسيا كبيرا.
أما الدافع الاقتصادي فيرجع إلى أن اليمن بعد احتلال الاحباش لها قد فقدت دورها التقليدي في نقل التجارة العالمية يوم أن كانت تسيطر على باب المندب، وتملك أسطولا ضخما لنقل البضائع إلى بلدان الهند والصين وغيرها، يضاف إلى ذلك أن النزاع بين الفرس والروم قد أدى إلى إغلاق الطريق التجاري الشرقي المار ببلاد العراق إلى الشام، ومن ثم أصبح الطريق البري عبر تهامة والحجاز هو الطريق المفتوح أمام التجارة الشرقية.
وكان على أهل مكة القيام بدور الوسيط لنقل التجارة بين الطرفين، ولما كانت هذه الوساطة التجارية تدر ربحا كبيرا على من يقوم بها فقد حاول الأحباش احتكار هذا المصدر الاقتصادي بالاستيلاء على مكة، وثم كانت حملة أبرهة.
وعلى كل حال فعندما علم العرب بسوء نية أبرهة تجاه الكعبة خرجوا إليه لمنعه من ذلك، ولكن أبرهة تمكن من هزيمة كل من تعرض لحملته فهزم ذا نفر وأصحابه، وهزم قبيلتي خثعم، وهما شهران وناهس، وهزم غيرها من القبائل التي تعرضت له.
ولما تهيأ أبرهة لدخول مكة ومعه فيله الضخم وبعض الأفيال الأخرى، وذلك لهدم الكعبة بشد جدارها بالسلاسل المشدودة بالأفيال؛ توسل عبد المطلب إلى ربه وناجاه بأن يحفظ بيته وبيت خليله إبراهيم عليه السلام، وأن يمنع أبرهة من الاعتداء عليه، فحمى الله بيته العتيق من ذلك الطاغية الغاشم، ورد كيده إلى نحره؛ فلم يستطع جيش أبرهة أن يدخل مكة.
وإنما توقف في وادي محسر؛ حيث برك الفيل الموجه لهدم الكعبة، وأبى أن يطأ حرم الله بغيا، فإذا وجهوه ناحية الشام أو اليمن أسرع في العدْو، وإذا وجهوه شطر الحرم برك، وحاولوا وأخفقوا، ثم أرسل الله تعالى على أبرهة وجيشه طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها؛ حجر في منقاره، وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس.
لا تصيب منهم أحدا إلا هلك، فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون بكل مهلك، وأصيب أبرهة في جسده، وتفشت الأمراض بين جنوده حتى هلك معظمهم، فكان عسكره يتساقطون موتى على الطريق وهم في عودتهم إلى اليمن!
هذه كانت المعجزة الخارقة التي سبقت ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد خلد الله تعالى هذا الحدث التاريخي في القرآن الكريم بقوله: (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل * ألم يجعل كيدهم في تضليل * وأرسل عليهم طيرا أبابيل * ترميهم بحجارة من سجيل * فجعلهم كعصف مأكول).
وهكذا تدخلت العناية الإلهية لإنقاذ البيت العتيق، فكان للكعبة رب يحميها ويرد عنها كيد المعتدين، وتنتهي حملة أبرهة بفاجعة جعلتهم عبرة لمن يعتبر، وعظة لمن يتعظ.
وبعد أن حمى الله تعالى مكة المكرمة من أصحاب الفيل ورد كيدهم إلى نحورهم ازدادت هيبتها في نفوس العرب وأصبح للقرشيين مكانة عظيمة بين القبائل العربية، وازدادت مكانتهم الدينية والتجارية.
وإلى جانب ذلك أصبح العرب يؤرخون حوادثهم بعام الفيل، واستمرت الأمور على ذلك حتى جاءت الدعوة الإسلامية بعد أربعين عاما من هذه الحملة، وتحول بيت الله الحرام إلى كعبة المسلمين وقبلة لهم؛ حيث أزال الرسول عنه آثار الجاهلية، وأمر بطمس معالم الوثنية، وصار حرما آمنا لا يدخله مشرك.